سورة البروج
صفحة 1 من اصل 1
سورة البروج
سورة البروج
سورة البروج مكية باتفاق. وهي ثنتان وعشرون آية)
بِسم الله الرحمَن الرحيم
** قوله تعالى: {وَالسّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ }.
قسم أقسم الله به جل وعز. وفي «البروج» أقوال أربعة: أحدها ـ ذات النجوم¹ قاله الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك. الثاني ـ القُصُور, قاله ابن عباس وعِكرمة ومجاهد أيضاً. قال عِكرمة: هي قُصور في السماء. مجاهد: البُروج فيها الحرس. الثالث ـ ذات الخَلْق الحسن¹ قال المِنهال بن عمرو. الرابع ـ ذات المنازل¹ قاله أبو عبيدة ويحيى بن سلام. وهي اثنا عشر بُرْجاً, وهي منازل الكواكب والشمس والقمر. يسير القمر في كل برج منها يومين وثلث يوم¹ فذلك ثمانية وعشرون يوماً, ثم يستسِرّ ليلتين¹ وتسير الشمس في كل برج منها شهراً. وهي: الحَمَل, والثّورُ, والجَوزاء, والسّرَطان, والأسد, والسّنْبلة, والمِيزان, والعَقْرب, والقَوسُ والجَدْي, والدلو, والحُوت. والبروج في كلام العرب: القصور¹ قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مّشَيّدَةٍ} (النساء: 78). وقد تقدّم.
** قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ }.
قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} أي الموعود به. وهو قَسَم آخر, وهو يوم القيامة¹ من غير اختلاف بين أهل التأويل. قال ابن عباس: وُعِد أهلُ السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه. {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} اختلف فيهما¹ فقال عليّ وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم: الشاهد يوم الجمعة, والمشهودُ يوم عرفة. وهو قول الحسن. ورواه أبو هُريرة مرفوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة...» خرّجه أبو عيسى الترمذيّ في جامعه, وقال: هذا حديث (حسن) غريب, لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عُبيدة, وموسى بن عبيدة يُضَعّف في الحديث, ضَعّفه يحيـى بن سعيد وغيره. وقد رَوَي شُعبة وسفيان الثوريّ وغير واحد من الأئمة عنه. قال القشَيريّ فيومُ الجمعة يشهد على كل عامل بما عمل فيه.
قلت: وكذلك سائر الأيام والليالي¹ فكل يوم شاهد, وكذا كل ليلة¹ ودليله ما رواه أبو نعِيم الحافظ عن معاوية بن قُرّة عن مَعْقِل بن يسار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من يوم يأتي على العبد إلا يُنادَى فيه: يا بن آدم, أنا خَلْق جديد, وأنا فيما تعمل عليك شهيد, فاعمل فيّ خيراً أشهد لك به غد, فإني لو قد مضيتُ لم ترني أبداً, ويقول الليل مثلَ ذلك». حديث غريب من حديث معاوية, تفرّد به عنه زيد العَمّي, ولا أعلمه مرفوعاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد. وحكى القُشَيريّ عن ابن عمر وابن الزّبير أن الشاهد يوم الأضحى. وقال سعيد بن المسيب: الشاهد: التّروِية, والمشهود: يوم عَرَفة. وروي إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن عليّ رضي الله عنه: الشاهد يوم عرفة, والمشهود يوم النحر. وقاله النخعيّ. وعن عليّ أيضاً: المشهود يوم عرفة. وقال ابن عباس والحسين ابن عليّ رضي الله عنهما: المشهود يوم القيامة¹ لقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مّجْمُوعٌ لّهُ النّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مّشْهُودٌ} (هود: 103).
قلت: وعلى هذا اختلفت أقوال العلماء في الشاهد, فقيل: الله تعالى¹ عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جُبير¹ بيانه: {وَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً} (النساء: 79), «قل أي شيء أكبر شهادة؟ قلِ الله شهيد بينِي وبينكم». وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم¹ عن ابن عباس أيضاً والحسين بن عليّ¹ وقرأ ابن عباس {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىَ هَـَؤُلآءِ شَهِيداً} (النساء: 41), وقرأ الحسين {يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً} (الأحزاب: 45).
قلت: وأقرأ أنا «ويكون الرسول عليكُمْ شهيداً». وقيل: الأنبياء يَشْهَدون على أممهم¹ لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ} (النساء: 41). وقيل: آدم. وقيل: عيسى بن مريم¹ لقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مّا دُمْتُ فِيهِمْ} (المائدة: 117). والمشهود: أمته. وعن ابن عباس أيضاً ومحمد بن كعب: الشاهد الإنسان¹ دليله: «كفى بِنفسِك اليوم عليك حسِيباً». مقاتل: أعضاؤه¹ بيانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النور: 24). الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمّة, والمشهود سائر الأمم¹ بيانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ} (البقرة: 143). وقيل: الشاهد: الحفَظَة, والمشهود: بنو آدم. وقيل: الليالي والأيام. وقد بيناه.
قلت: وقد يشهد المالُ على صاحبه, والأرضُ بما عُمل عليها¹ ففي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن هذا المال خَضِر حُلْو, ونِعم صاحبُ المسلم هو لمن أعطي منه المسكين واليتيم وابن السبيل ـ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وإنه من يأخذْه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يَشْبَع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة». وفي الترمذيّ عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا} (الزلزلة: 4) قال: «أتدرون ما أخبارُها»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها, نقول عمل يوم كذا كذا كذا وكذا. قال: فهذه أخبارها». قال حديث حسن غريب صحيح. وقيل: الشاهد الخلْق, شهدوا لله عزّ وجلّ بالوحدانية. والمشهود له بالتوحيد هو الله تعالى. وقيل: المشهود يومُ الجمعة¹ كما رَوَى أبو الدّرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثِروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة...» وذكر الحديث. خرّجه ابن ماجه وغيره.
قلت: فعلى هذا يوم عرفة مشهود, لأن الملائكة تشهده, وتنزل فيه بالرحمة. وكذا يوم النحر إن شاء الله. وقال أبو بكر العطار: الشاهد الحجر الأسود¹ يشهد لمن لمسه بصدق وإخلاص ويقين. والمشهود الحاجّ. وقيل: الشاهد الأنبياء, والمشهود محمد صلى الله عليه وسلم¹ بيانه: «وإذ أخذ الله ميثاق النبِيين لما آتيتكم مِن كِتابٍ وحِكمةٍ ـ إلى قوله تعالى: وأنا معكم من الشاهدين».
** قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الاُخْدُودِ * النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىَ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ }.
قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الاُخْدُودِ} أي لعن. قال ابن عباس: كل شيء في القرآن «قُتل» فهو لُعِن. وهذا جواب القسم ـ في قول الفرّاء ـ واللام فيه مضمرة, كقوله: «والشمس وضحاها ثم قال قد أفلح من زكاها»: أي لقد أفلح. وقيل: فيه تقديم وتأخير¹ أي قتل أصحاب الأخدود والسماءِ ذات البُروج¹ قاله أبو حاتم السجستانيّ. ابن الأنباريّ: وهذا غَلَط¹ لأنه لا يجوز لقائل أن يقول: والله قام زيد¹ على معنى قام زيد والله. وقال قوم: جواب القسم {إِنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ} (البروج: 12) وهذا قبيح¹ لأن الكلام قد طال بينهما. وقيل: {إِنّ الّذِينَ فَتَنُواْ} (البروج: 10). وقيل: جواب القسم محذوف, أي والسماء ذات البروج لَتُبْعَثُنّ. وهذا اختيار ابن الأنباريّ. والأخدود: الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق, وجمعه أخاديد. ومنه الخدّ لمجاري الدموع, والمخدّة¹ لأن الحدّ يوضع عليها. ويقال: تخدّد وجه الرجل: إذا صارت فيه أخاديد من جراح, قال طَرَفة:
ووجهٌ كأنّ الشمسَ حلتْ رداءهاعليه نَقيّ اللونِ لم يَتَخدّدِ
{النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} «النار» بدل من «الأخدود» بدل الاشتمال. و «الوقود» بفتح الواو قراءة العامة, وهو الحَطَب. وقرأ قتادة وأبو رجاء ونصر بن عاصم (بضم الواو) على المصدر¹ أي ذات الاتقاد والالتهاب. وقيل: ذات الوُقود بأبدان الناس. وقرأ أشهب العُقَيلي وأبو السّمال العدويّ وابن السميقع «النار ذات» بالرفع فيهما¹ أي أحرقتهم النار ذات الوقود. {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} أي الذين خدّدوا الأخاديد وقعدوا عليها يلقون فيها المؤمنين, وكانوا بنجرانَ في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقد اختلفت الرواة في حديثهم. والمعنى متقارب. ففي صحيح مسلم عن صُهَيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان ملك فيمن كان قبلكم, وكان له ساحر¹ فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر¹ فبعث إليه غلاماً يعلمه¹ فكان في طريقه إذا سَلَك, راهب, فقعد إليه وسمع كلامه, فأعجبه¹ فكان إذا أتي الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه¹ فإذا أتى الساحر ضربه¹ فشكا ذلك إلى الراهب, فقال: إذا خشيت الساحرَ فقل: حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتي على دابة عظيمة قد حبست الناس, فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة, حتى يمضي الناس¹ فرماها فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني¹ أنت اليوم أفضل مني, قد بلغ من أمرك ما أرى, وإنك ستبتلي¹ فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ. وكان الغلام يبريء الأكمه والأبرص, ويداوي الناس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي, فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحداً, إنما يشفِي الله¹ فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك¹ فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس¹ فقال له الملك: مَنْ ردّ عليك بصرك؟ قال ربيّ. قال: ولك رب غيري؟! قال: ربي وربّك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دَلّ على الغلام¹ فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني! أقد بلغ من سحرك ما تبريء الأكمه والأبرص, وتفعل وتفعل؟! قال: إنا لا أشفي أحداً, إنما يشفي الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب¹ فجيء بالراهب, فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى فدعا بالمنشار, فوضع المنشار في مَفْرِق رأسِه فشقه حتى وقع شِقاه. ثم جيء بِجلِيس الملِكِ فقيل له: ارجع عن دينك¹ فأبى فأبى فوضع المنشار في مَفْرِق رأسه, فشقه به حتى وقع شِقاه. ثم جيء بالغلام فقبَل له: ارجع عن دينك, فأبي فدفعه اِلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به اِلى جبل كذا وكذا, فاصعدوا به الجبل, فإذا بلغتم ذِروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه¹ فذهبوا به فصعِدوا به الجبل فقال: اللهم اكفِنِيهم بما شِئت, فرجف بهم الجبل, فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملِك, فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانِيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قُرْقور, فتوسطوا به البحر, فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه¹ فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت¹ فانكفأت بهم السفينة, فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك, فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرُك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحدِ, وتصلبني على جِذع, ثم خذ سهماً من كنانتي, ثم ضع السهم في كبد القوس, ثم قل: باسم الله رب الغلام, ثم ارمني¹ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناسَ في صعيد واحد, وصلبه على جِذْع, ثم أخذ سهماً من كنانته, ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام¹ ثم رماه فوقع السهم في صدغه, فوضع يده في صدغه, في موضع السهم, فمات¹ فقال الناس: آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! فأتى الملِك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد واللّهِ نزل بك حَذرك, قد آمن الناس¹ فأمر بالأخدودٍ في أفواه السّكك, فخدّت, وأضرم النيران, وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها ـ أو قيل له اقتحم ـ ففعلوا¹ حتى جاءت امرأة ومعها صبيّ لها, فتقاعست أن تقع فيها, فقال لها الغلام: «يا أمّة اصبِرِي فإنِك على الحق». خرجه الترمذي بمعناه. وفيه: «وكان على طريق الغلام راهب في صومعة» قال معمر: أحسب أن أصحاب الصوامع كانوا يومئذ مسلمين. وفيه: «أن الدابة التي حَبَستِ الناس كانت أسداً, وأن الغلام دُفن ـ قال ـ فيذكر أنه اُخرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتِل». وقال: حديث حسن غريب. ورواه الضحاك عن ابن عباس قال: كان مَلِك بنَجْران, وفي رعِيته رجل له فتى, فبعثه إلى ساحر يعلمه السحر, وكان طريق الفتى على راهب يقرأ الإنجيل¹ فكان يعجبه ما يسمعه من الراهب, فدخل في دين الراهب¹ فأقبل يوماً فإذا حية عظيمة قطعت على الناس طريقهم, فأخذ حجراً فقال باسم الله رب السموات والأرض وما بينهما¹ فقتلها. وذكر نحو ما تقدم. وأن الملك لما رماه بالسهم وقتله قال أهل مملكة الملك: لا إله إلا إله عبد الله بن ثامر¹ وكان اسمَ الغلام, فغضب الملك, وأمر فخُدّت أخاديد, وجُمع فيها حطب ونار, وعَرَض أهل مملكته عليها, فمن رجعِ عن التوحيد تركه, ومن ثبت على دينه قذفه في النار. وجيء بامرأة مُرْضعِ فقيل لها ارجعي عن دينك وإلا قذفناك وولدك ـ قال ـ فأشفقت وهمّت بالرجوع, فقال لها الصبيّ المُرْضَع: يا أمي, اثبتُي على ما أنت عليه, فإنما هي غميضة¹ فألقَوها وابنها. وروي أبو صالح عن ابن عباس أن النار ارتفعت من الأخدود فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذِراعاً فأحرقتهم. وقال الضحاك: هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مَبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة, أخذهم يوسف بن شراحبيل بن تُبّع الحميري, وكانوا نيفاً وثمانين رجلاً, وحفر لهم أخدوداً وأحرقهم فيه. حكاه الماورديّ, وحكى الثعلبيّ عنه أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل, أخذُوا رجالاً ونساء, فخدّوا لهم الأخاديد, ثم أوقدوا فيها النار, ثم أقيم المؤمنون عليها. وقيل لهم: تكفرون أو تُقْذَفون في النار؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه¹ وقاله عَطِية العوفِيّ. ورُوي نحو هذا عن ابن عباس. وقال عليّ رضي الله عنه: إن مِلكاً سُكِر فوقع على أخته, فأراد أن يجعل ذلك شرعاً في رعِيته فلم يقبلوا, فأشارت إليه أن يخطُب بأن الله ـ عز وجل ـ أحل نكاح الأخوات, فلم يُسمع منه. فأشارت إليه أن يخدّلهم الأخدود, ويلقي فيه كل من عصاه. ففعل. قال: وبقاياهم ينكِحون الأخوات وهم المَجُوس, وكانوا أهل كتاب. ورُوي عن عليّ أيضاً أن أصحاب الأخدود كان سببهم أن نبياً بعثه الله تعالى إلى الحبشة, فاتبعه ناس, فحذّلهم قومهم أخدوداً, فمن اتبع النبيّ رمي فيها, فجيء بامرأة لها بُنَيّ رضيع فجزِعت, فقال لها: يا أمّاه, امضي ولا تجزعي. وقال أيوب عن عِكرمة قال: {قُتِلَ أَصْحَابُ الاُخْدُودِ} قال: كانوا من قومك من السجِستان. وقال الكلبيّ: هم نصارى نجران, أخَذوا بها قوماً مؤمنين, فخدّوا لهم سبعة أخاديد, طول كل أخدود أربعون ذراعاً, وعرضه اثنا عشر ذراعاً. ثم طرح فيه النفط والحطب, ثم عرضوهم عليها¹ فمن أبى فذقوه فيها. وقيل: قوم من النصارى كانوا بالقُسْطنطينية زمان قُسْطَنطين. وقال مقاتل: أصحاب الأخدود ثلاثة¹ واحد بنجران, والاَخر بالشام, والاَخر بفارس. أمّا الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي, وأما الذي بفارس فبختنصر, والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نُواس. فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآناً, وأنزل قرآناً في الذي كان بنجران. وذلك أن رجلين مسلمين كان أحدهما بتهامة, والاَخر بنجران, آجر أحدهما نفسه, فجعل يعمل ويقرأ الاِنجيل¹ فرأت ابنة المستأجِر النورَ في قراءة الإنجيل, فأخبرت أباها فأسلم. وبلغوا سبعة وثمانين بين رجل وامرأة, بعد ما رفع عيسى, فخدّلهم يوسف بن ذي نُواس بن تُبّعٍ الحِميرِيّ أخدوداً, وأوقد فيه النار¹ وعرضهم على الكفر, فمن أبى أن يكفر قذفه في النار, وقال: من رجع عن دين عيسى لم يقذف. وإن امرأة معها ولدها صغير لم يتكلم, فرجعت, فقال لها ابنها: يا أمّاه, إني أرى أمامك ناراً لا تُطْفَأ, فقَذَفا جميعاً أنفسهما في النار, فجعلها الله وابنها في الجنة. فقُذِف في يوم واحد سبعة وسبعون إنساناً. وقال ابن إسحاق عن وهب بن منبه: كان رجل من بقايا أهل دين عيسى بن مريم عليه السلام, يقال له قيميون, وكان رجلاً صالحاً مجتهداً زاهداً في الدنيا مجاب الدعوة, وكان سائحاً في القرى, لا يُعْرَف بقرية إلا مضى عنها, وكان بَنّاء يعمل الطين. قال محمد بن كعب القُرَظيّ: وكان أهل نَجْرانَ أهل شرك يعبدون الأصنام, وكان في قرية من قراها قريباً من نجران ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر¹ فلما نزل بها قيميون, بنى بها خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر, فجعل أهل نجران يبعثون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر¹ فبعث إليه الثامرُ عبدَ الله بن الثامر, فكان مع غلمان أهل نجران, وكان عبد الله إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من أمر صلاته وعبادته, فجعل يجلس إليه ويسمع منه, حتى أسلم, فوحّد الله وعبده, وجعل يسأله عن اسم الله الأعظم, وكان الراهب يعلمه, فكتمه إياه وقال: يا بن أخي, إنك لن تحمله, أخشى ضعفك عنه¹ وكان أبو الثامر لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان. فلما رأى عبد الله أن الراهب قد بخِل عليه بتعليم اسم الله الأعظم, عمد إلى قِداح فجمعها, ثم لم يُبق لله تعالى اسماً يعلمه إلا كتبه في قِدْح, لكل اسم قِدْح¹ حتى إذا أحصاها أوقد لها ناراً, ثم جعل يقذفها فيها قِدْحاً قِدْحاً, حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بِقدحه, فوثب القِدْح حتى خرج منها لم يضرّه شيء¹ فأخذه ثم قام إلى صاحبه, فأخبره أنه قد علم اسم الله الأعظم الذي كتمه اِياه¹ فقال: وما هو؟ قال: كذا وكذا. قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع. فقال له: يابن أخي, قد أصبته, فأمسك على نفسك, وما أظن أن تفعل. فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضُرّ إلا قال: يا عبد الله, أتوحّد الله وتدخل في ديني, فأدعوَ الله لك فيعافِيكَ مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم¹ فيوحّد الله ويسلم, فيدعو الله له فيُشْفَى, حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على دينه ودعا له فعوفي¹ حتى رُفِع شأنه إلى ملكهم, فدعاه فقال له: أفسدت عليّ أهل قريتي, وخالفت ديني ودين آبائي, فلأمثلنّ بك. قال: لا تقدر على ذلك¹ فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل, فيطرح عن رأسه, فيقع على الأرض ليس به بأس. وجعل يبعث به إلى مياه نجرانَ, بحار لا يلقَي فيها شي إلا هلك, فيلقَى فيها فيجرج ليس به بأس¹ فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر: والله لا تقدر على قتلي حتى توحّد الله وتؤمن بما آمنت به¹ فإنك إن فعلت ذلك سُلّطت عليّ وقتلتني. فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادته, ثم ضربه بعصا فشجه شجة صغيرة ليست بكبيرة, فقتله, وهلك الملك مكانَه, واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر, وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحُكْمه. ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث¹ فمن ذلك كان أصل النصرانية بنجران. فسار إليهم ذو نُواس اليهوديّ بجنوده من حِمْير, فدعاهم إلى اليهودية, وخيرهم بين ذلك أو القتل, فاختاروا القتل, فخدّ لهم الأخدود¹ فحّرق بالنار وقتل بالسيف, ومَثّل بهم حتى قتل منهم عشرين ألفاً. وقال وهب بن منبه: اثنى عشر ألفاً. وقال الكلبيّ: كان أصحاب الأخدود سبعين ألفاً. قال وهب: ثم لما غَلَب أرياط على اليمن خرج ذو نُواس هارباً, فاقتحم البحر بفرسه فغرِق. قال ابن إسحاق: وذو نُواس هذا اسمه زُرْعة بن تُبّان أسعد الحميريّ, وكان أيضاً يسمى يوسف, وكان له غدائر من شعرٍ تَنُوسُ, أي تضطرب, فسمى ذا نُواس¹ وكان فعل هذا بأهل نجران, فأفلت منهم رجل اسمه دَوْسٌ ذو ثَعْلَبان, فساق الحبشة لينتصر بهم, فملكوا اليمن وهلك ذو نواس في البحر¹ ألقى نفسه فيه¹ وفيه يقول عمرو بن معدي كرب:
أتُوعِدني كأنك ذو رُعَيْنٍبأنعم عِيشةٍ أو ذو نُواسِ
وكائِنْ كان قبلَك من نَعِيمومُلْكٍ ثابتٍ في الناس راسِ
قديمٍ عهدُه من عهدِ عادٍعظيم قاهرِ الجبروت قاسِ
أزال الدهرُ مُلْكَهم فأضحىيُنَقّل من أناس في أناس
وذو رُعين: ملك من ملوك حمير. ورُعَين حصن له وهو من ولد الحرث بن عمرو بن حمير بن سَبَأ.
مسألة: قال علماؤنا: أعلم الله عز وجل المؤمنين من هذه الأمة في هذه الاَية, ما كان يلقاه من وَحّد قبلهم من الشدائد, يُؤنّسهم بذلك. وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والاَلام, والمشقات التي كانوا عليها, ليتأسّوا بمثل هذا الغلام, في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به, وبذله نفسه في حق إظهار دعوته, ودخول الناس في الدين مع صِغر سنه وعظم صبره. وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نُشِر بالمنشار. وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الإيمان في قلوبهم, صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا في دينهم. ابن العربي: وهذا منسوخ عندنا, حَسْب ما تقدم بيانه في سورة «النحل».
قلت: ليس بمنسوخ عندنا, وأن الصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى, قال الله تعالى مخبراً عن لقمان: {يَبُنَيّ أَقِمِ الصّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىَ مَآ أَصَابَكَ إِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ}: وروى أبو سعيد الخُدرِيّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إن من أعظم الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطان جائر»: خرجه الترمذيّ وقال: حديث حسن غريب, ورَوَى ابن سنجر (محمد بن سنجر) عن أميمة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
«كنت أوضىء النبي صلى الله عليه وسلم, فأتاه رجل, قال: أوصني: فقال: «لا تشرك بالله شيئاً وإن قُطّعت أو حُرّقْت بالنار...» الحديث: قال علماؤنا: ولقد امتُحِن كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصّلْب والتعذيب الشديد, فصبروا ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك: ويكفيك قصة عاصم وخُبيب وأصحابهما وما لَقُوا من الحروب والمِحَن والقتل والأسر والحرق, وغير ذلك, وقد مضى في «النحل» أن هذا إجماع ممن قوي في ذلك, فتأمله هناك.
قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الاُخْدُودِ} دعاءٌ على هؤلاء الكفار بالإبعاد من رحمة الله تعالى: وقيل: معناه الإخبار عن قتل أولئك المؤمنين, أي إنهم قُتلوا بالنار فصبروا: وقيل: هو إخبار عن أولئك الظالمين, فإنه رُوِي أن الله قبض أرواح الذين ألقوا في الأخدود قبل أن يصلوا إلى النار, وخرجت نار من الأخدود فأحرقت الذين هم عليها قعود: وقيل: إن المؤمنين نَجَوا, وأحرقت النار الذين قعدوا, ذكره النحاس, ومعنى «عليها» أي عندها وعلى بمعنى عند: وقيل: «عليها» على ما يدنو منها منها من حافات الأخدود, كما قال:
* وباتَ علـى النارِ النّـدى والمحلّقُ * العامل في {إِذْ}, {قُتِلَ} أي لعنوا في ذلك الوقت: {وَهُمْ عَلَىَ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} أي حضور: يعني الكفار, كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين, فمن أبى ألقوه في النار وفي ذلك وصفهم بالقسوة ثم بالجد في ذلك: وقيل: «على» بمعنى مع, أي وهم: مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود.
** قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }.
قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ} وقرأ أبو حَيْوة «نقِموا» بالكسر, والفصيح هو الفتح, وقد مضى في «براءة» القول فيه: أي ما نَقَم الملِك وأصحابه من الذين حَرّقهم: {إِلاّ أَن يُؤْمِنُواْ} أي إلا أن يصدّقوا: {بِاللّهِ الْعَزِيزِ} أي الغالب المنيع: {الْحَمِيدِ} أي المحمود في كل حال. {الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} لا شريك له فيهما ولا نديد {وَاللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي عالم بأعمال خلقه لا تخفى عليه خافية.
** قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ }.
قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي حَرّقوهم بالنار. والعرب تقول: فَتن فلانٌ الدرهمَ والدينارَ, إذا أدخله الكور, لينظر جودته. ودينار مفتون. ويسمى الصائغ الفتان, وكذلك الشيطان, وورق فتين, أي فضة محترقة. ويقال للحرّ فتين, أي كأنها أحرقت حجارتها بالنار, وذلك لسوادها. {ثُمّ لَمْ يَتُوبُواْ} أي من قبيح صنيعهم مع ما أظهره الله لهذا الملك الجبار الظالم وقومه من الاَيات والبينات على يد الغلام. {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنّمَ} لكفرهم. {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} في الدنيا لإحراقهم المؤمنين بالنار. وقد تقدم عن ابن عباس. وقيل: «ولهم عذاب الحريق» أي ولهم في الاَخرة عذاب زائد على عذاب كفرهم بما أحرقوا المؤمنين. وقيل: لهم عذاب, وعذاب جهنم الحريق. والحريق: اسم من أسماء جهنم¹ كالسّعير. والنار دركات وأنواع ولها أسماء. وكأنهم يعذبون بالزمهرير في جهنم, ثم يعذّبون بعذاب الحريق. فالأول عذاب ببردها, والثاني عذاب بحرها {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ} أي هؤلاء الذين كانوا آمنوا بالله¹ أي صدقوا به وبرسله. {وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي} أي بساتين. {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ} من ماء غير آسن, ومن لبن لم يتغير طعمه, ومن خمر لذة للشاربين, وأنهار من عسل مصفّى. {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} أي العظيم, الذي لا فوز يشبهه.
** قوله تعالى: {إِنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ * إِنّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعّالٌ لّمَا يُرِيدُ }.
قوله تعالى: {إِنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ} أي أخذه الجبابرة والظلمة, كقوله جلّ ثناؤه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىَ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. وقد تقدم. قال المبرد «إن بطش ربك» جواب القسم. المعنى: والسماء ذات البروج إن بطش ربك, وما بينهما معتَرِض مؤكّد للقسم. وكذلك قال التّرمذي الحكيم في نوادر الأصول: إن القسم واقع عما ذكر صفته بالشدة: {إِنّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ} يعني الخَلْق ـ عن أكثر العلماء ـ يخلُقهم ابتداء, ثم يعيدهم عند البعث. وروى عكرمة قال: عَجِب الكفار من إحياء الله جلّ ثناؤه الأموات, وقال ابن عباس: يبدىء لهم عذاب الحريق في الدنيا, ثم يعيده عليهم في الاَخرة. وهذا اختيار الطبريّ: {وَهُوَ الْغَفُورُ} أي الستُور لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها {الْوَدُودُ} أي المحب لأوليائه. ورَوَى الضحاك عن ابن عباس قال: كما يودّ أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة. وعنه أيضاً «الودود» أي المتودد إلى أوليائه بالمغفرة, وقال مجاهد الوادّ لأوليائه, فعول بمعنى فاعل. وقال ابن زيد: الرحيم, وحكى المبرد عن إسماعيل بن إسحق القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له, وأنشد قول الشاعر:
وأركبُ في الروع عُرْيانةًذلولَ الجَناح لقاحاً ودُوداً
أي لا ولد لها تحِن إليه, ويكون معنى الاَية: إنه يغفر لعباده وليس له ولد يغفر لهم من أجله, ليكون بالمغفرة متفضلاً من غير جزاء. وقيل: الودود بمعنى المودود, كركوب وحلُوب, أي يوده عباده الصالحون ويحبونه {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} قرأ الكوفيون إلا عاصما «المجيد» بالخفض, نعتاً للعرش. وقيل: لـ«ـربك»¹ أي إن بطش ربك المجيد لشديد, ولم يمتنع الفصل, لأنه جارٍ مجرى الصفة في التشديد. الباقون بالرفع نعتا لـ«ـذو» وهو الله تعالى. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم¹ لأن المجد هو النهاية في الكرم والفضل, والله سبحانه المنعوت بذلك, وإن كان قد وُصف عرشه بالكريم في آخر «المؤمنون. تقول العرب: في كل شجر نار, واستمجد المرخُ والعفار¹ أي تناهيا فيه, حتى يُقْتَبَس منهما. ومعنى ذو العرش: أي ذو المُلك والسلطان¹ كما يقال: فلان على سرير ملكه¹ وإن لم يكن على سرير. ويقال: ثُل عرشه: أي ذهب سلطانه. وقد مضى بيان هذا في «الأعراف» وخاصة في «كتاب الأسنى, في شرح أسماء الله الحسنى». {فَعّالٌ لّمَا يُرِيدُ} أي لا يمتنع عليه شيء يريده. الزمخشريّ: «فَعّال» خبر ابتداء محذوف. وإنما قيل: «فَعّال» لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. وقال الفراء: هو رفع على التكرير والاستئناف¹ لأنه نكرة محضة. وقال الطبريّ: رفع «فعال» وهي نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب «الغفور الودود». وعن أبي السّفر قال: دخل ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه يعودونه فقالوا: ألا نأتيك بطبيب؟ قال: قد رآني! قالوا: فما قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد.
** قوله تعالى: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ }.
قوله تعالى: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} أي قد أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم¹ يؤنّسه بذلك ويسليه. ثم بينهم فقال. {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} وهما في موضع جر على البدل من «الجنود». المعنى: إنك قد عرفت ما فعل الله بهم حين كذبوا أنبياءه ورسله. {بَلِ الّذِينَ كَفَرُواْ} أي من هؤلاء الذين لا يؤمنون بك. {فِي تَكْذِيبٍ} لك¹ كدأب من قبلهم. وإنما خص فرعون وثمود¹ لأن ثمود في بلاد العرب, وقصتهم عندهم مشهورة وإن كانوا من المتقدمين. وأمر فرعون كان مشهوراً عند أهل الكتاب وغيرهم, وكان من المتأخرين في الهلاك¹ فدلّ بهما على أمثالهما في الهلاك. والله أعلم.
** قوله تعالى: {وَاللّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مّحْفُوظٍ }.
قوله تعالى: {وَاللّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مّحِيطٌ} أي يقدر على أن يُنْزل بهم ما أنزل بفرعون. والمحاط به كالمحصور. وقيل: أي والله عالم بهم فهو يجازيهم. {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مّجِيدٌ} أي متناهٍ في الشرف والكرم والبركة, وهو بيان ما بالناس الحاجة إليه من أحكام الدين والدنيا, لا كما زعم المشركون. وقيل «مجيد»: أي غير مخلوق. {فِي لَوْحٍ مّحْفُوظٍ} أي مكتوب في لوح. وهو محفوظ عند الله تعالى من وصول الشياطين إليه. وقيل: هو أمّ الكتاب¹ ومنه انتُسخ القرآن والكتب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: اللوح من ياقوته حمراء, أعلاه معقود بالعرش وأسفله في حجر مَلَك يقال له ما طِرْيون, كتابه نور, وقلمه نور, ينظر الله عزّ وجلّ فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة¹ ليس منها نظرة إلا وهو يفعل ما يشاء¹ يرفع وضيعا, ويضع رفيعاً», ويغنى فقيراً, ويفقر غنياً¹ يحيى ويميت, ويفعل ما يشاء¹ لا إله إلا هو. وقال أنس بن مالك ومجاهد: إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله تعالى في جبهة إسرافيل. وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش. وقيل: اللوح المحفوظ الذي فيه أصناف الخلق والخليقة, وبيان أمورهم, وذكر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم, والأقضية النافذة فيهم, ومآل عواقب أمورهم¹ وهو أم الكتاب. وقال ابن عباس: أوّل شيء كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ «إني أنا الله لا إله إلا أنا, محمد رسولي, مِن استسلم لقضائي, وصبر على بلائي, وشكر نعمائي, كتبته صدّيقاً وبعثته مع الصدّيقين, ومن لم يستسلم لقضائي ولم يصبِر على بلائي, ولم يشكر نعمائي, فليتخذ إلهاً سواي». وكتب الحجاج إلى محمد ابن الحنفية رضي الله عنه يتوعده¹ فكتب إليه ابن الحنفية: «بلغني أن لله تعالى في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة في اللوح المحفوظ, يُعِز ويذلّ, ويبتلى ويُفْرح, ويفعل ما يريد¹ فلعل نظرة منها تشغلك بنفسك, فتشتغل بها ولا تتفرغ». وقال بعض المفسرين: اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرأونه. وقرأ ابن السّمَيْقع وأبو حَيْوة «قرآن مجيد» على الإضافة¹ أي قرآن ربّ مجيد. وقرأ نافع «في لوحٍ محفوظ» بالرفع نعتاً للقرآن¹ أي بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح. الباقون (بالجر) نعتاً للوح. والقرّاء متفقون على فتح اللام من «لوح» إلا ما روي عن يحيى بن يعمَر¹ فإنه قرآن «لُوحٍ» بضم اللام¹ أي إنه يلوح, وهو ذو نور وعلو وشرف. قال الزمخشريّ: واللوح الهواء¹ يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح. وفي الصحاح: لاح الشيء يلوح لَوْحاً أي لَمَحَ. ولاحهُ السفر: غيره. ولاح لوحاً ولواحاً: عطِش, والتاح مثله. واللوح: الكتِف, وكل عظم عريض. واللوح: الذي يكتب فيه. واللوح (بالضم): الهواء بين السماء والأرض. والحمد لله.
سورة البروج مكية باتفاق. وهي ثنتان وعشرون آية)
بِسم الله الرحمَن الرحيم
** قوله تعالى: {وَالسّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ }.
قسم أقسم الله به جل وعز. وفي «البروج» أقوال أربعة: أحدها ـ ذات النجوم¹ قاله الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك. الثاني ـ القُصُور, قاله ابن عباس وعِكرمة ومجاهد أيضاً. قال عِكرمة: هي قُصور في السماء. مجاهد: البُروج فيها الحرس. الثالث ـ ذات الخَلْق الحسن¹ قال المِنهال بن عمرو. الرابع ـ ذات المنازل¹ قاله أبو عبيدة ويحيى بن سلام. وهي اثنا عشر بُرْجاً, وهي منازل الكواكب والشمس والقمر. يسير القمر في كل برج منها يومين وثلث يوم¹ فذلك ثمانية وعشرون يوماً, ثم يستسِرّ ليلتين¹ وتسير الشمس في كل برج منها شهراً. وهي: الحَمَل, والثّورُ, والجَوزاء, والسّرَطان, والأسد, والسّنْبلة, والمِيزان, والعَقْرب, والقَوسُ والجَدْي, والدلو, والحُوت. والبروج في كلام العرب: القصور¹ قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مّشَيّدَةٍ} (النساء: 78). وقد تقدّم.
** قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ }.
قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} أي الموعود به. وهو قَسَم آخر, وهو يوم القيامة¹ من غير اختلاف بين أهل التأويل. قال ابن عباس: وُعِد أهلُ السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه. {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} اختلف فيهما¹ فقال عليّ وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم: الشاهد يوم الجمعة, والمشهودُ يوم عرفة. وهو قول الحسن. ورواه أبو هُريرة مرفوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة...» خرّجه أبو عيسى الترمذيّ في جامعه, وقال: هذا حديث (حسن) غريب, لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عُبيدة, وموسى بن عبيدة يُضَعّف في الحديث, ضَعّفه يحيـى بن سعيد وغيره. وقد رَوَي شُعبة وسفيان الثوريّ وغير واحد من الأئمة عنه. قال القشَيريّ فيومُ الجمعة يشهد على كل عامل بما عمل فيه.
قلت: وكذلك سائر الأيام والليالي¹ فكل يوم شاهد, وكذا كل ليلة¹ ودليله ما رواه أبو نعِيم الحافظ عن معاوية بن قُرّة عن مَعْقِل بن يسار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من يوم يأتي على العبد إلا يُنادَى فيه: يا بن آدم, أنا خَلْق جديد, وأنا فيما تعمل عليك شهيد, فاعمل فيّ خيراً أشهد لك به غد, فإني لو قد مضيتُ لم ترني أبداً, ويقول الليل مثلَ ذلك». حديث غريب من حديث معاوية, تفرّد به عنه زيد العَمّي, ولا أعلمه مرفوعاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد. وحكى القُشَيريّ عن ابن عمر وابن الزّبير أن الشاهد يوم الأضحى. وقال سعيد بن المسيب: الشاهد: التّروِية, والمشهود: يوم عَرَفة. وروي إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن عليّ رضي الله عنه: الشاهد يوم عرفة, والمشهود يوم النحر. وقاله النخعيّ. وعن عليّ أيضاً: المشهود يوم عرفة. وقال ابن عباس والحسين ابن عليّ رضي الله عنهما: المشهود يوم القيامة¹ لقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مّجْمُوعٌ لّهُ النّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مّشْهُودٌ} (هود: 103).
قلت: وعلى هذا اختلفت أقوال العلماء في الشاهد, فقيل: الله تعالى¹ عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جُبير¹ بيانه: {وَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً} (النساء: 79), «قل أي شيء أكبر شهادة؟ قلِ الله شهيد بينِي وبينكم». وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم¹ عن ابن عباس أيضاً والحسين بن عليّ¹ وقرأ ابن عباس {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىَ هَـَؤُلآءِ شَهِيداً} (النساء: 41), وقرأ الحسين {يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً} (الأحزاب: 45).
قلت: وأقرأ أنا «ويكون الرسول عليكُمْ شهيداً». وقيل: الأنبياء يَشْهَدون على أممهم¹ لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ} (النساء: 41). وقيل: آدم. وقيل: عيسى بن مريم¹ لقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مّا دُمْتُ فِيهِمْ} (المائدة: 117). والمشهود: أمته. وعن ابن عباس أيضاً ومحمد بن كعب: الشاهد الإنسان¹ دليله: «كفى بِنفسِك اليوم عليك حسِيباً». مقاتل: أعضاؤه¹ بيانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النور: 24). الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمّة, والمشهود سائر الأمم¹ بيانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ} (البقرة: 143). وقيل: الشاهد: الحفَظَة, والمشهود: بنو آدم. وقيل: الليالي والأيام. وقد بيناه.
قلت: وقد يشهد المالُ على صاحبه, والأرضُ بما عُمل عليها¹ ففي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن هذا المال خَضِر حُلْو, ونِعم صاحبُ المسلم هو لمن أعطي منه المسكين واليتيم وابن السبيل ـ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وإنه من يأخذْه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يَشْبَع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة». وفي الترمذيّ عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا} (الزلزلة: 4) قال: «أتدرون ما أخبارُها»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها, نقول عمل يوم كذا كذا كذا وكذا. قال: فهذه أخبارها». قال حديث حسن غريب صحيح. وقيل: الشاهد الخلْق, شهدوا لله عزّ وجلّ بالوحدانية. والمشهود له بالتوحيد هو الله تعالى. وقيل: المشهود يومُ الجمعة¹ كما رَوَى أبو الدّرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثِروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة...» وذكر الحديث. خرّجه ابن ماجه وغيره.
قلت: فعلى هذا يوم عرفة مشهود, لأن الملائكة تشهده, وتنزل فيه بالرحمة. وكذا يوم النحر إن شاء الله. وقال أبو بكر العطار: الشاهد الحجر الأسود¹ يشهد لمن لمسه بصدق وإخلاص ويقين. والمشهود الحاجّ. وقيل: الشاهد الأنبياء, والمشهود محمد صلى الله عليه وسلم¹ بيانه: «وإذ أخذ الله ميثاق النبِيين لما آتيتكم مِن كِتابٍ وحِكمةٍ ـ إلى قوله تعالى: وأنا معكم من الشاهدين».
** قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الاُخْدُودِ * النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىَ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ }.
قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الاُخْدُودِ} أي لعن. قال ابن عباس: كل شيء في القرآن «قُتل» فهو لُعِن. وهذا جواب القسم ـ في قول الفرّاء ـ واللام فيه مضمرة, كقوله: «والشمس وضحاها ثم قال قد أفلح من زكاها»: أي لقد أفلح. وقيل: فيه تقديم وتأخير¹ أي قتل أصحاب الأخدود والسماءِ ذات البُروج¹ قاله أبو حاتم السجستانيّ. ابن الأنباريّ: وهذا غَلَط¹ لأنه لا يجوز لقائل أن يقول: والله قام زيد¹ على معنى قام زيد والله. وقال قوم: جواب القسم {إِنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ} (البروج: 12) وهذا قبيح¹ لأن الكلام قد طال بينهما. وقيل: {إِنّ الّذِينَ فَتَنُواْ} (البروج: 10). وقيل: جواب القسم محذوف, أي والسماء ذات البروج لَتُبْعَثُنّ. وهذا اختيار ابن الأنباريّ. والأخدود: الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق, وجمعه أخاديد. ومنه الخدّ لمجاري الدموع, والمخدّة¹ لأن الحدّ يوضع عليها. ويقال: تخدّد وجه الرجل: إذا صارت فيه أخاديد من جراح, قال طَرَفة:
ووجهٌ كأنّ الشمسَ حلتْ رداءهاعليه نَقيّ اللونِ لم يَتَخدّدِ
{النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} «النار» بدل من «الأخدود» بدل الاشتمال. و «الوقود» بفتح الواو قراءة العامة, وهو الحَطَب. وقرأ قتادة وأبو رجاء ونصر بن عاصم (بضم الواو) على المصدر¹ أي ذات الاتقاد والالتهاب. وقيل: ذات الوُقود بأبدان الناس. وقرأ أشهب العُقَيلي وأبو السّمال العدويّ وابن السميقع «النار ذات» بالرفع فيهما¹ أي أحرقتهم النار ذات الوقود. {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} أي الذين خدّدوا الأخاديد وقعدوا عليها يلقون فيها المؤمنين, وكانوا بنجرانَ في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقد اختلفت الرواة في حديثهم. والمعنى متقارب. ففي صحيح مسلم عن صُهَيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان ملك فيمن كان قبلكم, وكان له ساحر¹ فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر¹ فبعث إليه غلاماً يعلمه¹ فكان في طريقه إذا سَلَك, راهب, فقعد إليه وسمع كلامه, فأعجبه¹ فكان إذا أتي الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه¹ فإذا أتى الساحر ضربه¹ فشكا ذلك إلى الراهب, فقال: إذا خشيت الساحرَ فقل: حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتي على دابة عظيمة قد حبست الناس, فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة, حتى يمضي الناس¹ فرماها فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني¹ أنت اليوم أفضل مني, قد بلغ من أمرك ما أرى, وإنك ستبتلي¹ فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ. وكان الغلام يبريء الأكمه والأبرص, ويداوي الناس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي, فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحداً, إنما يشفِي الله¹ فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك¹ فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس¹ فقال له الملك: مَنْ ردّ عليك بصرك؟ قال ربيّ. قال: ولك رب غيري؟! قال: ربي وربّك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دَلّ على الغلام¹ فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني! أقد بلغ من سحرك ما تبريء الأكمه والأبرص, وتفعل وتفعل؟! قال: إنا لا أشفي أحداً, إنما يشفي الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب¹ فجيء بالراهب, فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى فدعا بالمنشار, فوضع المنشار في مَفْرِق رأسِه فشقه حتى وقع شِقاه. ثم جيء بِجلِيس الملِكِ فقيل له: ارجع عن دينك¹ فأبى فأبى فوضع المنشار في مَفْرِق رأسه, فشقه به حتى وقع شِقاه. ثم جيء بالغلام فقبَل له: ارجع عن دينك, فأبي فدفعه اِلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به اِلى جبل كذا وكذا, فاصعدوا به الجبل, فإذا بلغتم ذِروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه¹ فذهبوا به فصعِدوا به الجبل فقال: اللهم اكفِنِيهم بما شِئت, فرجف بهم الجبل, فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملِك, فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانِيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قُرْقور, فتوسطوا به البحر, فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه¹ فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت¹ فانكفأت بهم السفينة, فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك, فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرُك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحدِ, وتصلبني على جِذع, ثم خذ سهماً من كنانتي, ثم ضع السهم في كبد القوس, ثم قل: باسم الله رب الغلام, ثم ارمني¹ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناسَ في صعيد واحد, وصلبه على جِذْع, ثم أخذ سهماً من كنانته, ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام¹ ثم رماه فوقع السهم في صدغه, فوضع يده في صدغه, في موضع السهم, فمات¹ فقال الناس: آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! فأتى الملِك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد واللّهِ نزل بك حَذرك, قد آمن الناس¹ فأمر بالأخدودٍ في أفواه السّكك, فخدّت, وأضرم النيران, وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها ـ أو قيل له اقتحم ـ ففعلوا¹ حتى جاءت امرأة ومعها صبيّ لها, فتقاعست أن تقع فيها, فقال لها الغلام: «يا أمّة اصبِرِي فإنِك على الحق». خرجه الترمذي بمعناه. وفيه: «وكان على طريق الغلام راهب في صومعة» قال معمر: أحسب أن أصحاب الصوامع كانوا يومئذ مسلمين. وفيه: «أن الدابة التي حَبَستِ الناس كانت أسداً, وأن الغلام دُفن ـ قال ـ فيذكر أنه اُخرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتِل». وقال: حديث حسن غريب. ورواه الضحاك عن ابن عباس قال: كان مَلِك بنَجْران, وفي رعِيته رجل له فتى, فبعثه إلى ساحر يعلمه السحر, وكان طريق الفتى على راهب يقرأ الإنجيل¹ فكان يعجبه ما يسمعه من الراهب, فدخل في دين الراهب¹ فأقبل يوماً فإذا حية عظيمة قطعت على الناس طريقهم, فأخذ حجراً فقال باسم الله رب السموات والأرض وما بينهما¹ فقتلها. وذكر نحو ما تقدم. وأن الملك لما رماه بالسهم وقتله قال أهل مملكة الملك: لا إله إلا إله عبد الله بن ثامر¹ وكان اسمَ الغلام, فغضب الملك, وأمر فخُدّت أخاديد, وجُمع فيها حطب ونار, وعَرَض أهل مملكته عليها, فمن رجعِ عن التوحيد تركه, ومن ثبت على دينه قذفه في النار. وجيء بامرأة مُرْضعِ فقيل لها ارجعي عن دينك وإلا قذفناك وولدك ـ قال ـ فأشفقت وهمّت بالرجوع, فقال لها الصبيّ المُرْضَع: يا أمي, اثبتُي على ما أنت عليه, فإنما هي غميضة¹ فألقَوها وابنها. وروي أبو صالح عن ابن عباس أن النار ارتفعت من الأخدود فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذِراعاً فأحرقتهم. وقال الضحاك: هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مَبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة, أخذهم يوسف بن شراحبيل بن تُبّع الحميري, وكانوا نيفاً وثمانين رجلاً, وحفر لهم أخدوداً وأحرقهم فيه. حكاه الماورديّ, وحكى الثعلبيّ عنه أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل, أخذُوا رجالاً ونساء, فخدّوا لهم الأخاديد, ثم أوقدوا فيها النار, ثم أقيم المؤمنون عليها. وقيل لهم: تكفرون أو تُقْذَفون في النار؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه¹ وقاله عَطِية العوفِيّ. ورُوي نحو هذا عن ابن عباس. وقال عليّ رضي الله عنه: إن مِلكاً سُكِر فوقع على أخته, فأراد أن يجعل ذلك شرعاً في رعِيته فلم يقبلوا, فأشارت إليه أن يخطُب بأن الله ـ عز وجل ـ أحل نكاح الأخوات, فلم يُسمع منه. فأشارت إليه أن يخدّلهم الأخدود, ويلقي فيه كل من عصاه. ففعل. قال: وبقاياهم ينكِحون الأخوات وهم المَجُوس, وكانوا أهل كتاب. ورُوي عن عليّ أيضاً أن أصحاب الأخدود كان سببهم أن نبياً بعثه الله تعالى إلى الحبشة, فاتبعه ناس, فحذّلهم قومهم أخدوداً, فمن اتبع النبيّ رمي فيها, فجيء بامرأة لها بُنَيّ رضيع فجزِعت, فقال لها: يا أمّاه, امضي ولا تجزعي. وقال أيوب عن عِكرمة قال: {قُتِلَ أَصْحَابُ الاُخْدُودِ} قال: كانوا من قومك من السجِستان. وقال الكلبيّ: هم نصارى نجران, أخَذوا بها قوماً مؤمنين, فخدّوا لهم سبعة أخاديد, طول كل أخدود أربعون ذراعاً, وعرضه اثنا عشر ذراعاً. ثم طرح فيه النفط والحطب, ثم عرضوهم عليها¹ فمن أبى فذقوه فيها. وقيل: قوم من النصارى كانوا بالقُسْطنطينية زمان قُسْطَنطين. وقال مقاتل: أصحاب الأخدود ثلاثة¹ واحد بنجران, والاَخر بالشام, والاَخر بفارس. أمّا الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي, وأما الذي بفارس فبختنصر, والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نُواس. فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآناً, وأنزل قرآناً في الذي كان بنجران. وذلك أن رجلين مسلمين كان أحدهما بتهامة, والاَخر بنجران, آجر أحدهما نفسه, فجعل يعمل ويقرأ الاِنجيل¹ فرأت ابنة المستأجِر النورَ في قراءة الإنجيل, فأخبرت أباها فأسلم. وبلغوا سبعة وثمانين بين رجل وامرأة, بعد ما رفع عيسى, فخدّلهم يوسف بن ذي نُواس بن تُبّعٍ الحِميرِيّ أخدوداً, وأوقد فيه النار¹ وعرضهم على الكفر, فمن أبى أن يكفر قذفه في النار, وقال: من رجع عن دين عيسى لم يقذف. وإن امرأة معها ولدها صغير لم يتكلم, فرجعت, فقال لها ابنها: يا أمّاه, إني أرى أمامك ناراً لا تُطْفَأ, فقَذَفا جميعاً أنفسهما في النار, فجعلها الله وابنها في الجنة. فقُذِف في يوم واحد سبعة وسبعون إنساناً. وقال ابن إسحاق عن وهب بن منبه: كان رجل من بقايا أهل دين عيسى بن مريم عليه السلام, يقال له قيميون, وكان رجلاً صالحاً مجتهداً زاهداً في الدنيا مجاب الدعوة, وكان سائحاً في القرى, لا يُعْرَف بقرية إلا مضى عنها, وكان بَنّاء يعمل الطين. قال محمد بن كعب القُرَظيّ: وكان أهل نَجْرانَ أهل شرك يعبدون الأصنام, وكان في قرية من قراها قريباً من نجران ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر¹ فلما نزل بها قيميون, بنى بها خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر, فجعل أهل نجران يبعثون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر¹ فبعث إليه الثامرُ عبدَ الله بن الثامر, فكان مع غلمان أهل نجران, وكان عبد الله إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من أمر صلاته وعبادته, فجعل يجلس إليه ويسمع منه, حتى أسلم, فوحّد الله وعبده, وجعل يسأله عن اسم الله الأعظم, وكان الراهب يعلمه, فكتمه إياه وقال: يا بن أخي, إنك لن تحمله, أخشى ضعفك عنه¹ وكان أبو الثامر لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان. فلما رأى عبد الله أن الراهب قد بخِل عليه بتعليم اسم الله الأعظم, عمد إلى قِداح فجمعها, ثم لم يُبق لله تعالى اسماً يعلمه إلا كتبه في قِدْح, لكل اسم قِدْح¹ حتى إذا أحصاها أوقد لها ناراً, ثم جعل يقذفها فيها قِدْحاً قِدْحاً, حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بِقدحه, فوثب القِدْح حتى خرج منها لم يضرّه شيء¹ فأخذه ثم قام إلى صاحبه, فأخبره أنه قد علم اسم الله الأعظم الذي كتمه اِياه¹ فقال: وما هو؟ قال: كذا وكذا. قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع. فقال له: يابن أخي, قد أصبته, فأمسك على نفسك, وما أظن أن تفعل. فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضُرّ إلا قال: يا عبد الله, أتوحّد الله وتدخل في ديني, فأدعوَ الله لك فيعافِيكَ مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم¹ فيوحّد الله ويسلم, فيدعو الله له فيُشْفَى, حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على دينه ودعا له فعوفي¹ حتى رُفِع شأنه إلى ملكهم, فدعاه فقال له: أفسدت عليّ أهل قريتي, وخالفت ديني ودين آبائي, فلأمثلنّ بك. قال: لا تقدر على ذلك¹ فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل, فيطرح عن رأسه, فيقع على الأرض ليس به بأس. وجعل يبعث به إلى مياه نجرانَ, بحار لا يلقَي فيها شي إلا هلك, فيلقَى فيها فيجرج ليس به بأس¹ فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر: والله لا تقدر على قتلي حتى توحّد الله وتؤمن بما آمنت به¹ فإنك إن فعلت ذلك سُلّطت عليّ وقتلتني. فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادته, ثم ضربه بعصا فشجه شجة صغيرة ليست بكبيرة, فقتله, وهلك الملك مكانَه, واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر, وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحُكْمه. ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث¹ فمن ذلك كان أصل النصرانية بنجران. فسار إليهم ذو نُواس اليهوديّ بجنوده من حِمْير, فدعاهم إلى اليهودية, وخيرهم بين ذلك أو القتل, فاختاروا القتل, فخدّ لهم الأخدود¹ فحّرق بالنار وقتل بالسيف, ومَثّل بهم حتى قتل منهم عشرين ألفاً. وقال وهب بن منبه: اثنى عشر ألفاً. وقال الكلبيّ: كان أصحاب الأخدود سبعين ألفاً. قال وهب: ثم لما غَلَب أرياط على اليمن خرج ذو نُواس هارباً, فاقتحم البحر بفرسه فغرِق. قال ابن إسحاق: وذو نُواس هذا اسمه زُرْعة بن تُبّان أسعد الحميريّ, وكان أيضاً يسمى يوسف, وكان له غدائر من شعرٍ تَنُوسُ, أي تضطرب, فسمى ذا نُواس¹ وكان فعل هذا بأهل نجران, فأفلت منهم رجل اسمه دَوْسٌ ذو ثَعْلَبان, فساق الحبشة لينتصر بهم, فملكوا اليمن وهلك ذو نواس في البحر¹ ألقى نفسه فيه¹ وفيه يقول عمرو بن معدي كرب:
أتُوعِدني كأنك ذو رُعَيْنٍبأنعم عِيشةٍ أو ذو نُواسِ
وكائِنْ كان قبلَك من نَعِيمومُلْكٍ ثابتٍ في الناس راسِ
قديمٍ عهدُه من عهدِ عادٍعظيم قاهرِ الجبروت قاسِ
أزال الدهرُ مُلْكَهم فأضحىيُنَقّل من أناس في أناس
وذو رُعين: ملك من ملوك حمير. ورُعَين حصن له وهو من ولد الحرث بن عمرو بن حمير بن سَبَأ.
مسألة: قال علماؤنا: أعلم الله عز وجل المؤمنين من هذه الأمة في هذه الاَية, ما كان يلقاه من وَحّد قبلهم من الشدائد, يُؤنّسهم بذلك. وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والاَلام, والمشقات التي كانوا عليها, ليتأسّوا بمثل هذا الغلام, في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به, وبذله نفسه في حق إظهار دعوته, ودخول الناس في الدين مع صِغر سنه وعظم صبره. وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نُشِر بالمنشار. وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الإيمان في قلوبهم, صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا في دينهم. ابن العربي: وهذا منسوخ عندنا, حَسْب ما تقدم بيانه في سورة «النحل».
قلت: ليس بمنسوخ عندنا, وأن الصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى, قال الله تعالى مخبراً عن لقمان: {يَبُنَيّ أَقِمِ الصّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىَ مَآ أَصَابَكَ إِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ}: وروى أبو سعيد الخُدرِيّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إن من أعظم الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطان جائر»: خرجه الترمذيّ وقال: حديث حسن غريب, ورَوَى ابن سنجر (محمد بن سنجر) عن أميمة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
«كنت أوضىء النبي صلى الله عليه وسلم, فأتاه رجل, قال: أوصني: فقال: «لا تشرك بالله شيئاً وإن قُطّعت أو حُرّقْت بالنار...» الحديث: قال علماؤنا: ولقد امتُحِن كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصّلْب والتعذيب الشديد, فصبروا ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك: ويكفيك قصة عاصم وخُبيب وأصحابهما وما لَقُوا من الحروب والمِحَن والقتل والأسر والحرق, وغير ذلك, وقد مضى في «النحل» أن هذا إجماع ممن قوي في ذلك, فتأمله هناك.
قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الاُخْدُودِ} دعاءٌ على هؤلاء الكفار بالإبعاد من رحمة الله تعالى: وقيل: معناه الإخبار عن قتل أولئك المؤمنين, أي إنهم قُتلوا بالنار فصبروا: وقيل: هو إخبار عن أولئك الظالمين, فإنه رُوِي أن الله قبض أرواح الذين ألقوا في الأخدود قبل أن يصلوا إلى النار, وخرجت نار من الأخدود فأحرقت الذين هم عليها قعود: وقيل: إن المؤمنين نَجَوا, وأحرقت النار الذين قعدوا, ذكره النحاس, ومعنى «عليها» أي عندها وعلى بمعنى عند: وقيل: «عليها» على ما يدنو منها منها من حافات الأخدود, كما قال:
* وباتَ علـى النارِ النّـدى والمحلّقُ * العامل في {إِذْ}, {قُتِلَ} أي لعنوا في ذلك الوقت: {وَهُمْ عَلَىَ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} أي حضور: يعني الكفار, كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين, فمن أبى ألقوه في النار وفي ذلك وصفهم بالقسوة ثم بالجد في ذلك: وقيل: «على» بمعنى مع, أي وهم: مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود.
** قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }.
قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ} وقرأ أبو حَيْوة «نقِموا» بالكسر, والفصيح هو الفتح, وقد مضى في «براءة» القول فيه: أي ما نَقَم الملِك وأصحابه من الذين حَرّقهم: {إِلاّ أَن يُؤْمِنُواْ} أي إلا أن يصدّقوا: {بِاللّهِ الْعَزِيزِ} أي الغالب المنيع: {الْحَمِيدِ} أي المحمود في كل حال. {الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} لا شريك له فيهما ولا نديد {وَاللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي عالم بأعمال خلقه لا تخفى عليه خافية.
** قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ }.
قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي حَرّقوهم بالنار. والعرب تقول: فَتن فلانٌ الدرهمَ والدينارَ, إذا أدخله الكور, لينظر جودته. ودينار مفتون. ويسمى الصائغ الفتان, وكذلك الشيطان, وورق فتين, أي فضة محترقة. ويقال للحرّ فتين, أي كأنها أحرقت حجارتها بالنار, وذلك لسوادها. {ثُمّ لَمْ يَتُوبُواْ} أي من قبيح صنيعهم مع ما أظهره الله لهذا الملك الجبار الظالم وقومه من الاَيات والبينات على يد الغلام. {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنّمَ} لكفرهم. {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} في الدنيا لإحراقهم المؤمنين بالنار. وقد تقدم عن ابن عباس. وقيل: «ولهم عذاب الحريق» أي ولهم في الاَخرة عذاب زائد على عذاب كفرهم بما أحرقوا المؤمنين. وقيل: لهم عذاب, وعذاب جهنم الحريق. والحريق: اسم من أسماء جهنم¹ كالسّعير. والنار دركات وأنواع ولها أسماء. وكأنهم يعذبون بالزمهرير في جهنم, ثم يعذّبون بعذاب الحريق. فالأول عذاب ببردها, والثاني عذاب بحرها {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ} أي هؤلاء الذين كانوا آمنوا بالله¹ أي صدقوا به وبرسله. {وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي} أي بساتين. {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ} من ماء غير آسن, ومن لبن لم يتغير طعمه, ومن خمر لذة للشاربين, وأنهار من عسل مصفّى. {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} أي العظيم, الذي لا فوز يشبهه.
** قوله تعالى: {إِنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ * إِنّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعّالٌ لّمَا يُرِيدُ }.
قوله تعالى: {إِنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ} أي أخذه الجبابرة والظلمة, كقوله جلّ ثناؤه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىَ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. وقد تقدم. قال المبرد «إن بطش ربك» جواب القسم. المعنى: والسماء ذات البروج إن بطش ربك, وما بينهما معتَرِض مؤكّد للقسم. وكذلك قال التّرمذي الحكيم في نوادر الأصول: إن القسم واقع عما ذكر صفته بالشدة: {إِنّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ} يعني الخَلْق ـ عن أكثر العلماء ـ يخلُقهم ابتداء, ثم يعيدهم عند البعث. وروى عكرمة قال: عَجِب الكفار من إحياء الله جلّ ثناؤه الأموات, وقال ابن عباس: يبدىء لهم عذاب الحريق في الدنيا, ثم يعيده عليهم في الاَخرة. وهذا اختيار الطبريّ: {وَهُوَ الْغَفُورُ} أي الستُور لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها {الْوَدُودُ} أي المحب لأوليائه. ورَوَى الضحاك عن ابن عباس قال: كما يودّ أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة. وعنه أيضاً «الودود» أي المتودد إلى أوليائه بالمغفرة, وقال مجاهد الوادّ لأوليائه, فعول بمعنى فاعل. وقال ابن زيد: الرحيم, وحكى المبرد عن إسماعيل بن إسحق القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له, وأنشد قول الشاعر:
وأركبُ في الروع عُرْيانةًذلولَ الجَناح لقاحاً ودُوداً
أي لا ولد لها تحِن إليه, ويكون معنى الاَية: إنه يغفر لعباده وليس له ولد يغفر لهم من أجله, ليكون بالمغفرة متفضلاً من غير جزاء. وقيل: الودود بمعنى المودود, كركوب وحلُوب, أي يوده عباده الصالحون ويحبونه {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} قرأ الكوفيون إلا عاصما «المجيد» بالخفض, نعتاً للعرش. وقيل: لـ«ـربك»¹ أي إن بطش ربك المجيد لشديد, ولم يمتنع الفصل, لأنه جارٍ مجرى الصفة في التشديد. الباقون بالرفع نعتا لـ«ـذو» وهو الله تعالى. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم¹ لأن المجد هو النهاية في الكرم والفضل, والله سبحانه المنعوت بذلك, وإن كان قد وُصف عرشه بالكريم في آخر «المؤمنون. تقول العرب: في كل شجر نار, واستمجد المرخُ والعفار¹ أي تناهيا فيه, حتى يُقْتَبَس منهما. ومعنى ذو العرش: أي ذو المُلك والسلطان¹ كما يقال: فلان على سرير ملكه¹ وإن لم يكن على سرير. ويقال: ثُل عرشه: أي ذهب سلطانه. وقد مضى بيان هذا في «الأعراف» وخاصة في «كتاب الأسنى, في شرح أسماء الله الحسنى». {فَعّالٌ لّمَا يُرِيدُ} أي لا يمتنع عليه شيء يريده. الزمخشريّ: «فَعّال» خبر ابتداء محذوف. وإنما قيل: «فَعّال» لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. وقال الفراء: هو رفع على التكرير والاستئناف¹ لأنه نكرة محضة. وقال الطبريّ: رفع «فعال» وهي نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب «الغفور الودود». وعن أبي السّفر قال: دخل ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه يعودونه فقالوا: ألا نأتيك بطبيب؟ قال: قد رآني! قالوا: فما قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد.
** قوله تعالى: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ }.
قوله تعالى: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} أي قد أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم¹ يؤنّسه بذلك ويسليه. ثم بينهم فقال. {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} وهما في موضع جر على البدل من «الجنود». المعنى: إنك قد عرفت ما فعل الله بهم حين كذبوا أنبياءه ورسله. {بَلِ الّذِينَ كَفَرُواْ} أي من هؤلاء الذين لا يؤمنون بك. {فِي تَكْذِيبٍ} لك¹ كدأب من قبلهم. وإنما خص فرعون وثمود¹ لأن ثمود في بلاد العرب, وقصتهم عندهم مشهورة وإن كانوا من المتقدمين. وأمر فرعون كان مشهوراً عند أهل الكتاب وغيرهم, وكان من المتأخرين في الهلاك¹ فدلّ بهما على أمثالهما في الهلاك. والله أعلم.
** قوله تعالى: {وَاللّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مّحْفُوظٍ }.
قوله تعالى: {وَاللّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مّحِيطٌ} أي يقدر على أن يُنْزل بهم ما أنزل بفرعون. والمحاط به كالمحصور. وقيل: أي والله عالم بهم فهو يجازيهم. {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مّجِيدٌ} أي متناهٍ في الشرف والكرم والبركة, وهو بيان ما بالناس الحاجة إليه من أحكام الدين والدنيا, لا كما زعم المشركون. وقيل «مجيد»: أي غير مخلوق. {فِي لَوْحٍ مّحْفُوظٍ} أي مكتوب في لوح. وهو محفوظ عند الله تعالى من وصول الشياطين إليه. وقيل: هو أمّ الكتاب¹ ومنه انتُسخ القرآن والكتب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: اللوح من ياقوته حمراء, أعلاه معقود بالعرش وأسفله في حجر مَلَك يقال له ما طِرْيون, كتابه نور, وقلمه نور, ينظر الله عزّ وجلّ فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة¹ ليس منها نظرة إلا وهو يفعل ما يشاء¹ يرفع وضيعا, ويضع رفيعاً», ويغنى فقيراً, ويفقر غنياً¹ يحيى ويميت, ويفعل ما يشاء¹ لا إله إلا هو. وقال أنس بن مالك ومجاهد: إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله تعالى في جبهة إسرافيل. وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش. وقيل: اللوح المحفوظ الذي فيه أصناف الخلق والخليقة, وبيان أمورهم, وذكر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم, والأقضية النافذة فيهم, ومآل عواقب أمورهم¹ وهو أم الكتاب. وقال ابن عباس: أوّل شيء كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ «إني أنا الله لا إله إلا أنا, محمد رسولي, مِن استسلم لقضائي, وصبر على بلائي, وشكر نعمائي, كتبته صدّيقاً وبعثته مع الصدّيقين, ومن لم يستسلم لقضائي ولم يصبِر على بلائي, ولم يشكر نعمائي, فليتخذ إلهاً سواي». وكتب الحجاج إلى محمد ابن الحنفية رضي الله عنه يتوعده¹ فكتب إليه ابن الحنفية: «بلغني أن لله تعالى في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة في اللوح المحفوظ, يُعِز ويذلّ, ويبتلى ويُفْرح, ويفعل ما يريد¹ فلعل نظرة منها تشغلك بنفسك, فتشتغل بها ولا تتفرغ». وقال بعض المفسرين: اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرأونه. وقرأ ابن السّمَيْقع وأبو حَيْوة «قرآن مجيد» على الإضافة¹ أي قرآن ربّ مجيد. وقرأ نافع «في لوحٍ محفوظ» بالرفع نعتاً للقرآن¹ أي بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح. الباقون (بالجر) نعتاً للوح. والقرّاء متفقون على فتح اللام من «لوح» إلا ما روي عن يحيى بن يعمَر¹ فإنه قرآن «لُوحٍ» بضم اللام¹ أي إنه يلوح, وهو ذو نور وعلو وشرف. قال الزمخشريّ: واللوح الهواء¹ يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح. وفي الصحاح: لاح الشيء يلوح لَوْحاً أي لَمَحَ. ولاحهُ السفر: غيره. ولاح لوحاً ولواحاً: عطِش, والتاح مثله. واللوح: الكتِف, وكل عظم عريض. واللوح: الذي يكتب فيه. واللوح (بالضم): الهواء بين السماء والأرض. والحمد لله.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى